مفكرة الإسلام: هكذا فعلتها الصحف الدانماركية الرخيصة من جديد, أعادت 17 صحيفة دانماركية نشر إحدى الصور المسيئة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم, التي كانت قد نُشرت في العام 2006م وكان لها ردة فعل غاضبة على مستوى العالميْن العربي والإسلامي.
يتبين للمتأمّل في هذا الحدث المستفز, والذي علِمَتْ ـ بل وتيقَّنَتْ ـ الصحف الناشرة لمثل هذه الترهات, مدى تأثير مثل هذا الحدث في عواطف المسلمين العرب وغيرهم, ومدى فداحة الجرم الذي ارتكبته الصحف في حق نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم, إلا أنها ـ وعلى الرغم من كل ذلك ـ تمادت في غيها الذي ارتكبته أولاً, وأعادت الكرّة تارة أخرى, لتثبت بغير مجال للشلك, أن الأمر كان عن عمد في الأولى والآخرة.
ولتُسكت الأقلام المخدوعة, والأصوات الموهومة, التي ظنت أن المسيئين ـ أيًّا كانوا, على اختلاف ألوانهم ومللهم ونحلهم ـ لا يعرفون الإسلام حق المعرفة, ولا يدرون عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حق الدراية, إلا أن الواقع يشهد بضد ذلك تمامًا كما تثبته هذه الوقعة.
فلا يُظن في أحد الآن من أهل الدانمارك وما حولها من الدول ـ خاصة ـ أنه لم تُتح لهم فرصة التعرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وحياته بعد الحملة التي قام بها الغيورون وقتذاك ـ وقت الإساءة الدانماركية الأولى ـ إلا أنهم وعلى الرغم من ذلك فعلوها ثانية, لترسخ في مفاهيمنا أنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة, فدلالات الأحداث كلها تشير إلى ذلك, وإليك طرفًا من هذا:
ولكن قبل البدء أود توضيح أمر من الأهمية بمكان, وهو أن الصحف التي قامت بنشر الرسوم أولاً, ثم إعادة نشرها مرة أخرى, صحف رخيصة, سواء على المستوى القيمي أو الإنساني, هي تتشدق بحرية التعبير, تملأ بها الدنيا ضجيجًا, إلا أنها أبعد المؤسسات عن مزاولة الحرية, فحرية التعبير هي نوع من الالتزام بالاحترام المتبادل بين الثقافات قبل أن تكون حقًّا مكتسبًا في الإهانة والتشهير, وهنا مكمن دائها, إن حرية التعبير المزعومة ينتهي حدّها حينما يبتدئ حق الآخرين, وأعظم حقوق الآخرين هي احترام مقدساتهم الدينية على وجه الخصوص.
إساءات ممنهجة:
يأتي هذا الحدث في إطار منظومة محكمة الأطراف من الإساءات على المستويين الداخلي والخارجي, فالفترة السابقة متخمة بشتات متناثر من التجريحات والإساءات المتعمدة المدعومة داخليًّا وخارجيًّا من الحاقدين والخائفين في آنٍ واحد: فالحاقدون المترصدون ينظرون إلى الإسلام ـ ذي الشأن ـ شاعرين بالضآلة والقزامة, يفتشون في دواخل أنفسهم عن أسوأ التهم ويلصقونها به, آملين أن تنزله من عليائه, إلى مستواهم الدنيء, حتى يتساوى الجميع في كفة واحدة.
والخائفون, يخشونه وينظرون إليه على أنه العدو الحالي بعد اندثار الشيوعية وسقوطها في بداية طريقها في منتصف القرن الماضي؛ من أجل ذلك يدعمون تارة المعاهد البحثية التي تعهدت بالقيام بهذه المهمة بطريقة ممنهجة محكمة تدس السم في العسل, دون شعور من المخدوعين من أبناء هذا الدين, وتارة ثانية بإلقاء حفنة من الدولارات لبعض المتخبطين الذين يظهرون السب والشتم وإلصاق التهم بغير دليل من حس أو عقل, وتارة ثالثة يقوم بمثل هذه المهمة متطوعون مخدوعون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء, ولكنهم شُحنوا بشحنة عاطفية قوية تضاد الإسلام المخيف ـ على حد اعتقادهم ـ فيظنون أنهم بذلك يقدمون خدمة لأوطانهم وبلادهم وأديانهم.
وفي الأسطر القليلة القادمة سنحاول أن نتحسس هذه المحاولات التي لن تكف عن الظهور متتالية في منظومة الإساءة داخليًا وخارجيًا..
أولاً: الحملة على الحجاب:
سارت الحملة على الحجاب في ركابٍ من التوظيف السياسي لمعاداة الإسلام في أوروبا, والتي لم يُكتفى بها بل تم تصديرها إلى العالم الإسلامي, ليقوم بالترويج لها من الدعاة إلى التغريب أمثال جمال البنا وغيره, وعلى أثر ذلك وضعت عدة دول أوروبية قيودًا ـ بمختلف درجاتها ـ على ارتداء المرأة المسلمة للحجاب, كما حدث في بريطانيا وفرنسا وألمانيا, إضافة إلى حظر لبس الحجاب في خمس مدارس هولندية, وتخيير امرأة بين الحجاب ووظيفتها كحارسة سجن في كندا, وحظر ارتداء الحجاب على الموظفات المسلمات في مدينة بلجيكية, مرورًا بتصريحات وزير الثقافة المصري عن الحجاب بأنه رجعية وعودة إلى الوراء, بالإضافة إلى التضييقات التي تحدث في تونس والمغرب على المحجبات في عملهن أو مزاولة أنشطتهن المختلفة... إلى غير ذلك من الأمثلة الشاهدة على استهداف الحجاب كقيمة إسلامية, سواء داخليًا أم خارجيًا.
ثانيًا: تكثيف النشاط التنصيري:
حيث اتسعت رقعة الحديث عن النصرانية وأنشطتها المشبوهة في وسائل الإعلام المختلفة, وتطاول بعضهم على القيم الإسلامية والثوابت الدينية, وانتشرت الشبكات التنصيرية المدعومة غربيًا والعاملة على مدى واسع في غالبية الدول العربية والإسلامية, ومنها العراق من خلال بعض الكنائس الأردنية, ومصر التي صرح بها الدكتور زغلول النجار بأن هناك أوكارًا يمارس فيها القساوسة عملية التنصير مستغلين فيها فقر الناس وبطالتهم, والأردن التي تم اكتشاف 40 فرقة تنصيرية تعمل فيها بطريقة سرية تحت غطاء الجمعيات الخيرية, هذا بالإضافة إلى ما تمارسه الدول الغربية من تنصير لأعضاء الجاليات الإسلامية هناك.
ثالثًا: اعتداءات فردية:
لم يكتفِ المعتدون بالإساءات الممنهجة على مستوى الدول, وإنما عمدوا كذلك للإساءات على المستوى الفردي, فمن مثل ذلك ما قام به "جيرت فيلدرز"، النائب المتطرف في البرلمان الهولندي, وتصريحاته عن الإسلام بأنه دين العنف, متهمًا الرسول الكريم بالتطرف, ثم مطالبته بحظر ارتداء المسلمات للنقاب, إضافة إلى تهجّم الصومالية المرتدة عن الإسلام "أيان هيرسي" على الدين, ووصفها له بالتخلف, ومطالبتها بالحرية الجنسية للمرأة, وكتابتها موضوع فيلم مسيء للإسلام تم نشره، وقُتل بعد ذلك مخرجه على يد أحد المسلمين.
أما في مصر فقد استعر أوار حملة مسعورة على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى زوجاته, لا سيما السيدة عائشة رضي الله عنها, على صفحات الصحف وعلى المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت.
بالإضافة إلى الكتاب الذي صدر باسم "الجنس في حياة النبي" لكاتبة مصرية, تتناول فيه حياة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الناحية وعلاقاته مع زوجاته بلهجة مستهجنة وقحة فيها من البذاءة ما فيها, والتي قرنت فيها بين وصف النبي صلى الله عليه وسلم في العنوان وبين كلمة "الجنس", ما يوحي بسوء الأدب من الكاتبة، إضافة إلى الإيحاء بشغل الجنس لجانب كبير من عقل النبي صلى الله عليه وسلم. بحسب زعمها.
هذا غيض من فيض الاتهامات والإساءات التي ذاعت فيما بين الإساءة الأولى والإساءة الثانية من الصحف الدانماركية, والتي لا يتوقع لها أن تهدأ, بل على العكس, يراد لها أن تزيد ويستعر أوارها, وما في جعبة الساحر لهو أكثر مما أماط عنه لثامه.
خطوات المواجهة:
أولاً: دور الحكومات:
يتجلى الدور المؤسسي في هذه المرة مهمًا أكثر من سابقتها, فإن افترضنا حسن النية في المرة الأولى وعدم معرفة الدانماركيين ومن حولهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو افتراض مستبعد ـ إلا أن هذه المرة كانت مقصودة ومتعمد فيها الاستفزاز والإساءة, فقد مرّ على الدانماركيين بركان الغضب الذي تفجّر في وجوههم في المرة الأولى, واتجهت جهود الدعاة إلى هناك يعرّفونهم بالمساء إليه لإزالة الجهالة المدّعاة, إلا أن الأمر عاد بأشد مما كان.
فعلى الحكام والمؤسسات المجتمعية بمختلف أطيافها أن تتخذ موقفًا يرضي مجتمعاتها ويكون على مستوى الحدث, وهذا هو أهم دور تُواجه به هذه الإساءة, فسحب السفراء, والمقاطعة الدبلوماسية ومقاطعة البضائع بقرار سياسي... كل تلك الأدوات لا تزال في مهمَلة جراب الحكومات.
ثانيًا: دور الشعوب:
لا نستطيع أن ننكر الدور البالغ للشعوب العربية والإسلامية في مواجهة التحديات التي تعتريها إزاء إهانة المقدسات والإساءة إليها, فهم وحدهم الذين يستطيعون تحريك حكامهم ومؤسساتهم المختلفة, إلا أن السلاح الأقوى في هذه المرحلة هو سلاح مقاطعة المنتجات؛ تعبيرًا عن الغضب وعدم الرضا عما تنتهجه صحف بلادهم من سوء أدب وعنجهية, فالاستمرار في المقاطعة باب عظيم من أبواب الانتصار.
ثالثًا: دور العلماء:
"أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم", إن ما ينقصنا هو زمام المبادرة, وعلماؤنا الأجلاء عليهم دور بأن يسفروا للعامة عن الوجه القبيح للغرب, وأن يقوموا بحملات توعية لكشف ستار المحاولات التغريبية لسلخ المسلمين عن دينهم بالإساءة إلى ثوابتهم ومعتقداتهم. هذا من جانب.
ومن جانب آخر فعلى الدعاة ألا يتوقفوا عن دعوة غير المسلمين في الغرب, ونشر سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، كلما سنحت الفرصة لذلك, عليهم ألا يكتفوا برد الفعل تجاه الأحداث، وإنما عليهم أن يكونوا فاعلين, وهذا دورهم بجانب المؤسسات الدعوية العالمية.
القانونيون:
على رجال القانون المسلمين والمنظمات الإسلامية العالمية كمنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها ـ محاولة التوصل إلى قانون دولي يضفي القداسة والاحترام على مقدسات المسلمين وعقائدهم, وهذا هو ما سعت إليه منظمة المؤتمر الإسلامي وقت الإساءة الأولى، إلا أن محاولاتهم قد باءت بالفشل, ولكن الفرصة هذه المرة أسنح, لانعدام وجود الأعذار.