إن في حالة الغضب الذي تعيشه الأمة اليوم لتعبيرا صادقا عن المحبة التي تملأ النفوس ، وتعتلج في القلوب ، وتسري في الأرواح ، تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ، أشرف الناس ، وأحسن الناس ، وسيد الناس ، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الغضب هو الحق الأول الذي تقدمه الأمة نصرة لنبيها الكريم صلى الله عليه وسلم ، والذي يستتبع حقوقا وواجبات أخر ، إنه الغضب الواجب الذي سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نرى محارم الله تنتهك ، وهو الغضب الذي يزعج البدن للتحرك ، والعقل للتفكير طلبا للنصرة ، كلٌ بحسبه ، وحسب موقعه ، وعلى وسعه وطاقته ، بالحكمة التي تصلح ولا تفسد ، وتبني ولا تهدم ، فلا تهور وطيش ، ولا توان وكسل ، بل وضع للشئ في موضعه المناسب ، وفي وقته الصحيح ، وإن فيما يرى من مظاهر الغضب والنصرة لدليلا على الخير المتأصل في كيان هذه الأمة والمستقر في وجدانها ، وهل كان يُنتظر من أمة الإسلام إلا هذا ، وهل كان يُظن بها إلا ما وقع ، إنها أيام الغضب والفرح ، الغضب للرسول وعلى أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم ، والفرح بنصرة النبي وما تحقق للأمة من مكاسب ونجاحات ، لكن مما يؤلم ويؤذي ما يُرى من إعراض البعض عن مشاركة الأمة غضبتها ، بله نصرتها لنبيها صلى الله عليه وسلم ، فخنسوا وسكتوا ، ثم سكتوا ، ثم نطقوا فبئس ما نطقوا ، وليتهم ما فعلوا ، فلا هم بالذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا هم الذين تركوا الأمة وخيارها في نصرته ، إنهم مسوخ بشرية القالب ناطق بالعربية والضاد لكن القلب غربي الهوى ، قد ركبوا موجة الأحداث لكن في الوقت الضائع ، وسبحوا في بحره لكن بعكس التيار ، ليثبتوا للأمة أنهم في واد والأمة كلها في واد آخر ، فلا الهم هو الهم ، ولا القضية هي القضية ، ولا المصالح هي المصالح ، لهم برنامجهم الخاص والذي يريدون تمريره ، ولهم خطتهم التي يريدون تنفيذها ، قد وجدوا في الأحداث تعطيلا للمخطط ، وعائقا لتمرير المشروع ، فأخذوا في الالتفاف حول الحدث محاولين تجاوز العوائق ، ولملمة المشروع ، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، فخرجوا من بعد صمت ليدعوا الأمة إلى التسامح والعفو والتهدئة ، في وقت يأبى العدو أن يتقدم باعتذار بل يزيد من سخريته وباستهتار ، وكتبوا ليجروا الأمة لمعركة داخلية ، بدل توحيد الصف لصد الهجمة الخارجية ، ونطقوا بالسوء لتصفية الحسابات وتوزيع التهم وكيل الشتائم ، وكان الظن أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم محل وفاق وكلمة إجماع ، وأن هذا المقام متى مس فالكل سيقول كلمته الواضحة البينة في نصرته صلى الله عليه وسلم لا التواء فيها ولا غموض ، فخيب القوم الظن وأظهروا قبيح ما تكنه الأفئدة والقلوب ، فطعنوا الأمة في الظهر ، وحاولوا الاصطياد في الماء العكر ، وأقدموا على تفريق الصف في ظرف الأمة كلها مستنفرة في وجه عدو واحد ، فأضحى كشف هذا التوجه المشؤوم واجبا نصرة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ونصحا للأمة ، وفضحا لهذا التيار ، وتسجيلا لمواقف السوء هذه ليحفظها التاريخ ، و(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ).
(1)
من دعوات هذا التيار المشبوهة والتي بدأت تتضح أبعادها ، وتتكشف ملامحها ، دعوتهم إلى (التسامح مع الآخر) والتي علا صوتهم بها ، وتتابعت كتاباتهم فيها ، والتسامح متى وضع في موضعه الصالح له واللائق به كان خلقا إسلاميا مندوبا إليه ، لا شك في ذلك ولا ارتياب ، شأنه في ذلك شأن غيره من الأخلاق ، لكنهم بما يسطرون اليوم يكشفون عن حقيقة دعوتهم المشبوهة هذه ، وأن التسامح المطلوب ليس هو ذاك التسامح الشرعي ، والذي جاء الحض عليه والأمر به ، كلا ، إنما هو لون جديد من التسامح ، أبعد مدى وأوسع مساحة ، إنه التسامح مع من اعتدى ، وأذل ، وأهان ، ووجه الصفعة بعد الصفعة ، وأعظم في الفرية ، ويدعون أن هذا سنة نبوية ، وطريقة محمدية ، فهل على الآخذ به من ملام ، وما علم القوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكيما بل سيد الحكماء ، يزن الأمور بالعدل ، ويضع الدواء على الجرح ، ويقدر المصالح والعواقب ، فكما ترك ابن أبي سلول بلا عقاب ، أخذ عقبة بن أبي معيط بما أساء ، وكما قال لقريش: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) أمر بقتل ابن خطل ولو كان متعلقا بأستار الكعبة وهكذا ، فليس الأمر كما يراد تصويره ، تسامح مطلق ، أو عقاب مطلق، وإنما إلباس كل حدث لبوسه ، وإعطاء كل مسألة حقها ، وأحسب أن ما يجري اليوم من انتهاكات صارخة لدين الإسلام ونبي الإسلام لا محل فيه للتغافر والمسامحة والتجاوز ، وإنما الواجب القيام بالنصرة ، والغضب لله ، واستيفاء الحقوق ، أما دعوة الأمة إلى التغافل عن حجم المأساة ، والإعراض عن عظم الجريمة ، وفتح أبواب التسامح والمسامحة للمخطئين ، وأن يقتصر النقد -إن كان- على الكلمة الطيبة ، والعبارة اللينة ، والأسلوب الهادئ ، من غير جرح شعور ولا إيلام ، وكأن الأمة هي الجانية لا المجني عليها ، وكأننا من ظلمنا لا من ظُلمنا ، وكأن الاعتداء واقع منا لا بنا ، فليس بصحيح ولا مشروع ، بل بذله والحالة هذه مناقضة لمثل قوله تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ، والقوم ظالمون ما في ذلك من شك ، إن التسامح المشروع لا يكون إلا إذا صادف محلا مناسبا ، وإن أولئك المستهزئين بمقامه صلى الله عليه وسلم ليسوا موضعا صالحا للتسامح ، وإن التسامح مع أولئك المجرمين جريمة شرعية لا يجوز أن يكون بحال ، وليس للأمة الحق في التنازل عن حقه الشريف صلى الله عليه وسلم تحت لافتة التسامح والمسامحة ، وليت شعري أي عيش يبقى وأي حياة تطيب يوم يمس جناب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة تقف موقف المتفرج المتسامح ، المتغاضية عن صفعات الخصوم ، والتي لا تطالب بحقها ، فإن طلبته فعلى استحياء ، إن إجماع الأمة عامة منعقد على حرمة التسامح مع ساب النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قال عالم ولا شبه عالم بمثل ما يريده هؤلاء منا ، وفي كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية عظة وعبرة.
والقوم بدعوتهم للتسامح والتغافر والتجاوز عن الإساءة يلملمون ما تبقى من مشروعهم الخاسر التقارب والتقريب بين المسلم والكافر تحت شعارات التعايش والتسامح والسلام ، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخطط إلغاء عقيدة الولاء والبراء ، وهم معذورون فيما يفعلون فالخطب جلل ، والأمر عظيم ، والأحداث تجري على خلاف الهوى والمخطط ، فليس لهم إلا هذا المركب الصعب ليركبوه ولعل وعسى ، لقد ظهر للجميع حقيقة حال (الآخر)! منا ، واستبان للناس مدى الاحترام الذي تكنه صدروهم وقلوبهم لنا ولديننا ، وأن الأحقاد الصليبية لا تزال تتسكع على الجسد الأوروبي ، وأن النظرة السلبية للمسلمين لا زالت المسيطرة على المشهد الغربي ، وأنهم لا زالوا يعانون من عقدة (الإسلامافوبيا) ، وأقوال عقلائهم ومنصفيهم شاهدة بهذا وما أكثرها، وتاريخ الأمة السابق وواقعها المعاش خير شاهد ، وإن تغافل عن هذا كله المستغربون ولجوا وجعجعوا ، بالله عليكم أي حقد وبغض أظهر مما وقع وجرى حيال نبي أمة المليار مسلم ، وأي طعنة أنفذ وأنكى من هذه الطعنة ، وأي إهانة وصفعة وركلة أشد من هذه الإهانة ، ثم يكبر على أولئك الظالمين بعد هذا كله أن يقدموا كلمة (اعتذار) ، فكيف بما فوقه ، وقد اتضح للجميع أن مقام نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده لا تساوى عندهم شيئا في مقابل حقهم -المزعوم- في ممارسة حرية التعبير ، وإن فيما نرى من تسارع محموم لنشر صور الإفك هذه ، وذلك التعاضد والتناصر الذي يُرى ، والتصريحات العدائية التي نتلقاها عن اليمين والشمال لدلالة على أن الأمر أكبر مما نظن ، وأنه أوسع دائرة مما نحسب ، وصدق الله القائل (قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ، ولكن أصحابنا من دعاة التسامح لا يعقلون.
(2)
من غرائب المواقف المثبَتَة على هذا التيار تبرير ما وقع من اعتداء ، والاعتذار عما حصل من إساءة ، والمدافعة عن المجرمين المعتدين ، في محاولة لامتصاص الغضب والتهدئة ، وذلك بمختلف التبريرات ، وأنواع الاعتذارات ، فبعضهم1 يصرح بأن المسلمين هم السبب فيما وقع ، على قاعدة (لعن الله من لعن والديه ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أم الرجل فيسب أمه)! ، فما وقع من اعتداء على جناب النبي صلى الله عليه وسلم حلقة في سلسلة من الاعتداء المتبادل والذي انتهى إلى ما انتهى إليه ، هكذا والله يسطرون ، وهكذا يحملون أهل الإسلام تبعة ما جرى ، ويجري ، وكأنهم ليسوا منا ، وكأنهم الناطق الرسمي باسم المعتدين ، إنهم بمنطقهم الغريب هذا يقلبون الطاولة على أهل الإسلام فيجعلونهم معتدِين بعد أن كانوا مُعتدَى عليهم ، ويُظهرونهم في مظهر الظالم بدل أن يكونوا مظلومين ، و(البادي أظلم)! ، إن الدعاوى من أسهل الأمور ، ووضع السيناريو على حسب المزاج من أيسر الأشياء ، لكن الصعب تقديم الأدلة ، ووضع البراهين ، وسياق الحجج ، وإلا فليخبرونا عن هذا المسلسل المزعوم في الدنمارك والذي أدى إلى ما نرى ونسمع ، متى ابتدأ ، وكيف كانت حلقاته ، وأين محال الاعتداء من الطرف الإسلامي والذي استفز مخالفيه فقالوا ما قالوا ، وأقدموا على ما أقدموا عليه ، فإن عجزوا وخرجوا من هذه صفرا -وإنهم لخارجون بها- فسقطة تستدعي تراجعا وأوبة ، ولا يخفى أن المسألة أعمق غورا من مجرد التهارج والجهل بين فئات محدودة من هنا وهناك كما يظهر لكل ناظر في مسلسل الأحداث.
والقوم في دفاعهم المشبوه هذا يذهبون إلى أبعد من هذا في تحميل المسلمين مسؤولية الأحداث ، وأن السبب في استفحال الأمر عدم كفاءة القيادات الإسلامية بالدنمارك في معالجة المشكلة بالأساليب القانونية ، وفشلهم في رفع الدعاوى القضائية2 ، وكأن المسكين لا يعلم أن المسلمين هناك قد بذلوا الجهد في إيصال صوتهم لكنهم قوبلوا بالغطرسة والعنجهية الدنماركية ، هذه الغطرسة التي تأبى على القوم تقديم الاعتذار الصريح مع التصعيد الحاصل فكيف ولمّا يتم التصعيد ، إن طلب المسلمين -يا أستاذ- برفع القضية قد رفض ، بل رفض رئيس الوزراء الدنماركي استقبال السفراء العرب ، لقد سدت الأبواب ، وأغقلت المنافذ ، وهمش المسلمون ، فكيف يحملون تبعة هذه الجريمة يا فهيم.
وأطرف من هذا وأغرب ما سطره آخر زاعما أن جميع ما يرى من أحداث إنما هو بتدبير جماعات ذات صلة بتنظيم (القاعدة)! إي والله! ، وذلك لتعكير أجواء الصفاء بين العالم الإسلامي والعالم الغربي ، ولئلا يقال متقول أو مفتر أسوق هذا النص لأحدهم بحروفه يقول: (وتقول مصادر مخابرات أوروبية ، وبلد إسلامي أفريقي أنها حذرت بلدانا إسلامية من خطة يدبرها «ناشطون دنماركيون» مع «منظمات سرية» يحتمل اختراقها من القاعدة ، تهدف لصدام بين الغرب والمسلمين، وهو من أهداف زعماء الإرهاب، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري ، وبدلا من أن تأمر الحكومات الإسلامية مخابراتها بالتحقيق في مصادر تمويل حملة «أئمة كوبنهاجن» وصلاتهم والإخوان والطالبان وجماعات تخريب أخرى تعمل في الظلام، استغل بعضها الأزمة لصالح أجندتهم السياسية)3 ، أرأيتم كيف يتم الاستغفال ، وتمرر الأكاذيب ، وتنشر الشائعات ، ألم أقل لكم إن الخطب جلل ، وإن الأمر صعب ، وإن الأحداث قد آذت أهل هذا التيار ، فولجوا هذا السبيل ، وسلكوا هذا الطريق ، لعلهم يثورون في سماء الحقيقة الغبار ، أو يغطوا شمسها عن الأبصار ، لكن للناس عقول ، ولعل عقول القوم في إجازة.
ومن غريب ما يعتذر به القوم عن الإساءة الواقعة ، وما يقدمونه من تبريرات ، الزعم بأن ما وقع من سخرية واستهزاء عائد إلى طبيعة الدنماركيين المتفلتة ، وهوسهم بالتحرر والانطلاق ، وعشقهم لحرية التعبير ، مع عدم التدين ، وعدم الإيمان ، وأنه ليس ثمة حقد مزعوم ، ولا عداوة متوهمة ، ولا قضية بينهم وبين رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فلا ينبغي أن تُضخم المسألة ، وأن تُخرج عن هذا السياق فالأمر لا يعدو أن يكون سوء تفاهم ، وعدم تقدير للعواقب ليس إلا ، وأن إخراج القضية عن هذا الإطار تصعيد لا مصلحة فيه ، بل هو تصعيد مقصود لأهداف تحتية ، ومصالح شخصية ، ومكاسب فئوية4 ، بل إثارة الموضوع أصلا وإخراجه من الصعيد المحلي الدنماركي ليكون شأنا عالميا غير صحيح ، وأن الواجب محاسبة المسؤولين عن هذه (الشوشرة العالمية)5 التي لا فائدة فيها ، ولا أدري لما التغابي عما وقع ، ولما التعامي عما حدث ، ولما لا ينصف القوم ويُقروا بالحقائق كما هي بموضوعية وعدل ، وينظروا فيما يجري على الأرض كما هو ، لا أن يسعوا في لي عنق الأحداث لأفكار مسبّقة ، ويحملوا الواقع ما لا يحتمل ، ما نشر إساءة ، وما نشر دليل على صورة نمطية سلبية للإسلام ، وما نشر ينم عن عداوة مستقرة في النفوس ، هكذا هو الأمر ببساطة ومن غير تعقيد ، وبالله عليكم من نظر في تلكم الصور الآثمة هل يظن في راسمها أنه محب للنبي أو على الأقل محايد في نظرته إليه أم أنه مبغض له معاد؟ ألم يصوروه مرتديا عمامة على صورة قنبلة إشارة إلى دمويته وأنه لا يعدو أن يكون إرهابيا ، والإرهابي عدو! ، ألم يصوروه بصورة قبيحة حاملا في يده خنجرا كأنه جزار ومن خلفه امرأتان منقبتان ، بل صوروه بما هو أقبح وأشنع بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، أهكذا يصورون نبينا صلى الله عليه وسلم ، ثم يأتي من يزايد علينا ، ويريد إقناعنا بأنه ليس ثمة عداوة ولا حقد! ولا كراهية ولا شحناء! إن في هذا الاستهزاء المشين بمقام نبينا الأمين لدليلا على قبيح ما يضمرونه حيال نبينا وديننا ، وفي تصريحاتهم وكلماتهم ومواقفهم ما يدل على أن الأمر ليس تسلية بريئة ، أو تجاوزا ينبغي أن يتغاضى عنه ، كلا ، إنه خطأ ، وإنه اعتداء ، وإنه جريمة لا ينبغي السكوت عليها ، فأقصروا عن التبرير والمدافعة ، وانأوا بأنفسكم عن السقوط في هذه الهوة ، فإنها سقطة يوشك أن لا تقوموا بعدها ، فالناس تحفظ ، والتاريخ يسجل ، ولا مخرج لكم إلا إعلان البراءة مما سطرتموه ، ولعل وعسى.
(3)
من قبائح هذا التيار وأهله أنهم سعوا في مثل هذا الظرف الذي تعيشه الأمة إلى افتعال المعارك ، وإشعال الخصومات ، في محاولة لصرف المعركة الحاصلة بين المسلمين والمعتدين على جناب النبي صلى الله عليه وسلم ، لتحول المسألة إلى لون من الاحتراب الداخلي ، هذا منتصر غالب ، وذاك منهزم خاسر ، هذا (ربيع المتطرفين)6 ، وهذا أوان المتشددين (وصناع الكوابيس)7 ، تصفية للحسابات ، وإلقاء للاتهامات ، وإنقاذا لما يمكن إنقاذه من مشاريع ومخططات ، فصوروا ما يُرى من ردة الفعل الشعبية ، وهذا الحراك العام تجاه ما وقع من عداء سافر ، بأنه كان بمؤامرة وتخطيط ، وأن الأمر قد بيت بليل بهيم ، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تحريكا من صناع الكوابيس أهل التباغض والعداوة والشحناء ، وأن الأمة قد تبع لهم كالقطيع يتبع راعيه ، من غير فكر ولا تروي ، سمعوا لهم وأطاعوا ، وأنصتوا إليهم وأجابوا ، وما علم القوم أن هذه الحمية التي وقعت ، وهذه الكراهية التي ظهرت ، إنما هي بسبب الغضبة الإيمانية التي تجري في شرايين هذه الأمة ، غضبا لله ورسوله ، والذي لا يكون المؤمن مؤمنا إلا به ، فليس ثمة استلاب مزعوم ، ولا تحريك مدعى إلا تحريك عقيدة الأمة للأمة ، وإلا بالله عليكم من حرك جمهور المسلمين للمقاطعة مثلا ، أفتوى أطلقها فلان أو فلان ، أو توجيه من علان ، أم الواقع شاهد بأنها حركة شعبية عامة ابتدأت منها وانتهت إليها ، ووجد المسلمون أنفسهم منقادين لها قياما بواجب نصرته صلى الله عليه وسلم وذبا عن حياضه ، إن الموقف من الرسول صلى الله عليه وسلم قضية جوهرية مشتركة بين كل منتسب للإسلام ، سنيا كان أو بدعيا ، عدلا كان أو فاسقا ، فلا يلام مسلم على غضب يغضبه أو كراهية وبغض تقع في قلبه متى مس مقام النبي صلى الله عليه وسلم بتعد واستهزاء ، بل الملام من لم يغضبها ولم يمتلئ قلبه من الكراهية والبغضاء لكل متسبب فيها ، إن تصوير الحدث على هذا النحو تصوير مغلوط ، وإنه لمن سوء الظن بالناس ، وإنه لعقدة يجب عليهم أن يتخلوا عنها ، وطريقة يجب عليهم أن يتجنبوها ، إن الظرف حساس ، والأمر عظيم ، والانتهاك صارخ ، ونحن في غنى عن افتعال المعارك ، واستحداث الأزمات ، إن هَمّ المسلمين الأوحد هو الانتصار للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، على مختلف مذاهبهم ، وطرائقهم ، وفصائلهم ، فإن شئتم أن تكونوا معهم في سفينة النجاة فاركبوا بشرط أن تتركوها تجري وألا تسعوا في خرقها وإغراقها.
(4)
مساكين هم ليبراليونا ، مستوردي القيم والأفكار والمناهج الغربية ، الذين حاولوا إقناع الأمة بالإقبال على الحضارة الغربية بكليتها ، بخيرها وشرها ، بحلوها ومرها ، بما يُحب منها وما يُكره ، وصاحوا بأنه لا محل للانتقاء فليست الحضارة (بقالة) تأخذ منها وتذر ، إنما تؤخذ جميعا أو تترك جميعا ، ولا مجال للترك! مساكين هم لطالما أُحرجوا من مصدري الأفكار ، وبائعي القيم ، تلك القيم التي شهد العالم أجمع زيفها وهزالها ، فكم تشدق الغرب بحقوق الإنسان ، وأضحى الجميع يعلم مواصفات هذا الإنسان محل الرعاية وصاحب الحقوق ، شرقوا وغربوا بالدعوة إلى الديمقراطية ، ثم أرادوا فرضها بالعصا الغليظة وبالدكتاتورية ، تنادوا للتسامح ثم وأدوها في معتقلاتهم وسجونهم في أبو غريب وغوانتناموا وغيرها ، واليوم الأمة مدعوة إلى النظر إلى قيمة غربية جديدة ، تظهر نفسها للعالم في أقبح صورة ، وأكلح وجه ، إنها (حرية التعبير) ، الحرية التي لا تعرف الحدود ولا القيود ، ولا محرم فيها ولا محظور ، حرية لا عيب فيها ، حرية لا يعدلها في القداسة قيمة أخرى ، حتى أضحت الحرية اليوم أقدس من الرب جل وعلا في الضمير الغربي ، فلهم أن يتكلموا عن الرب بما شاؤوا ، وكيف شاؤوا ، ممارسة لحرية التعبير ، (نعم لنا الحق أن نرسم كاريكاتيرا عن الله)! كما قالها شقي من أشقيائهم عليه لعنة الله ، أما انتقاد حرية التعبير أو المساس من جنابها المقدس ، فحرام حتى على (حرية التعبير)!! لقد قالها المخلصون من قبل إن الحرية المزعومة عند دعاة الليبرالية ليس لها حدود تقف عندها ، فلا شرع يحوطها ، ولا عقل يحرسها ، وانظروا كيف ينتقدون الثوابت تحت شعارات الحق النسبي ، وانظروا كيف يطعنون في المسلمات عبر بوابة حرية التعبير ، وقد دفع الليبراليون عندنا التهمة ما استطاعوا وأنكروا ، وقالوا: سوء فهم لليبرالية ، وسوء ظن بالليبراليين ، وجهل بالثوابت ، وجهل بالمسلمات ، ثم تجئ الليبرالية الأصلية اليوم ، الليبرالية الأم ، والمُصدّر الأساس للفكرة لتقولها بملء الفم: ليس لحرية التعبير حد تنتهي إليه ، وليس لأحد الحق في المساس من جنابها المقدس أو النيل منها ، والحرية متى قيدت لم تعد حرية ، وصار صاحبها أسير القيد ، فلا ثوابت ولا مسلمات ، بل الكل خاضع للنقد ، بل وللاستهزاء والسخرية ، إن العالم الغربي يعيش أزمة حقيقية حيال هذه القيمة التي ضخمت وضخمت حتى غدت دينا جديدا يعبد فيها صاحبها هواه من دون الله ، ولم تعد للقيم الإنسانية والمفاهيم البشرية ما يكافئها وما يدانيها ، وما أزمتنا التي نعيشها اليوم معهم حيال ما وقع وجرى لنبينا صلى الله عليه وسلم إلا أنموذجا لتضخم هذه القيمة عندهم حتى يوشك أن يتلفهم ويهلكهم وقد فعل ، لقد اعتذروا لنا عن الاعتذار بدعوى حرية التعبير ، وصار السب والاستهزاء حقا مكفولا ترعاه الحكومات والدول الغربية تحت هذا البند (حرية التعبير) ، وصار معتنقوا هذا المبدأ وهم كثرة كاثرة مشاريع سب وشتيمة وإن لم يمارسوه ، إذ هم يبيحونه ويجوزونه وكفى بها جريمة ، ومن رضي بما وقع كمن فعل وقال ، لقد أظهروا تضامنهم وتآزرهم لضمان حقهم في حرية التعبير بإعادة نشر الصور هنا وهناك ، وليذهب المسلمون إلى الجحيم! وأعلنوا لنا مرارا أنهم غير مستعدين للتنازل عن حقهم المزعوم هذا لأي كان ، بل قال رئيس الوزراء الدنماركي: (القضية تتركز على حرية التعبير في الغرب مقابل المحرمات في الاسلام) ، وهكذا يريدون إقناعنا بقيمة حرية التعبير عندهم ، وأنه لا محل للتفاوض حولها ، ولا مجال للأخذ والعطاء ، ثم يأتي الليبراليون ويريدون إقناعنا باعتذارهم السخيف هذا ، فيقولون فيه: اعتذار (حقيقي) و(صحيح)!8 بل وتجاوزوا هذا ليؤكدوا على قداسة حرية التعبير وعدم تقبل فكرة التدخل في الصحافة على أي وجه وأي صورة9 ، حتى أنهم طعنوا في مواقف بعض الكفار الإيجابية من الأزمة واتهموهم بالانتهازية وأن الواجب عليهم (التأكيد على مبادئ حرية التعبير واحترام القانون)!10 وأن ما يرى من تهويل المسلمين لما وقع في جناب النبي صلى الله عليه وسلم عائد إلى عدم ممارستهم لهذه الحرية جراء ما يعانونه من قمع وكبت ، ولو أنهم ذاقوا طعمها لما قاموا ولما تحركوا ، فسحقا لهم ولحريتهم المزعومة هذه ، وهكذا يكون انتصار الليبراليون لقضيانا وإلا فلا! ، وبهذه المواقف يؤكد الليبراليون انسلاخهم عن الأمة فكرا ومنهجا وسلوكا.
ومع ما تقدم فمن العجيب أن فقاعة (حرية التعبير) هذه لا تلبث أن تتوارى زائلة إن مس جناب اليهود ، أو طعن في السامية ، أو شكك في محرقة الهوليكوست ، ليعلم الجميع أن الحضارة الغربية حضارة ازدواجية ، حضارة الكيل بمكيالين ، لا أخلاق ولا قيم تقوم عليها ، ولا مبادئ تستمر عليها ، إنما القيمة المقدسة الوحيدة عندهم –على الحقيقة- المصلحة ليس إلا ، فأينما كانت المصلحة فثم دينهم وشرعهم ، وإن داسوا في سبيل تحصيلها على الأديان والمبادئ والقيم ، وانظر إليهم اليوم كيف يتواصون بحرية التعبير ويتنادون بها ، ثم يستنفرون العالم للضغط على الشعوب المسلمة لوقف ثورة الغضب وإنهاء حالة المقاطعة ، وكأن حق التعبير حق خاص بهم فقط ، وأن الشعوب المسلمة حقها الكبت والحرمان ، إن ما يجري على الساحة من منازعة ومخاصمة حول حرية التعبير وحدوده قد كشف عن سوءة العالم الغربي والحضارة الغربية ، وإن ما يرى من التهارج حول حرية التعبير لمحرج جدا لليبراليي الداخل ، الذين أفنوا أعمارهم في التغني بالقيم الغربية ، والحضارة الغربية ، ثم تفجؤهم اللطمة بعد اللطمة لعلهم يتنبهون ، ومن غفوتهم يستيقظون ، وعلى دينهم يقبلون ، فيطلعوا على زيف القيم ، وهشاشة الحضارة ، حضارة الغرب التي لا روح فيها ولا خلق ، حضارة اللادين التي لا تعرف معروفا لا تنكر منكرا إلا ما أشرب من هواها ، فيتوقفوا عن التوريد ، ويقاطعوا تلكم الأفكار ، ويكشفوا الزيف ، ويفضحوا الباطل ، فيكفروا عما تقدم من خطايا عسى أن يغفر لهم.
(5)
مما جعجع به الليبراليون وهولوا حوله الأغلبية الصامتة في المجتمعات المسلمة ، فما إن يقع لخصومهم من الإسلاميين انتصار إلا وتراهم يسارعون: لا تفرحوا ، فالجمهور ليسوا معكم ، و(الأغلبية صامتة) ، والناظر في العالم الإسلامي شرقا وغربا يشهد الحضور الشعبي الواسع الداعم للحركة الإسلامية لكن القوم يتعامون عنه ويصمون الآذان ، موهمين أنفسهم أن (الأغلبية الصامتة) معهم وأنها غير موافقة لما يدور على الساحة ، وما يقع على الأرض ، لكن اللافت للنظر في هذا الحدث أن الأمة كلها قد قالت كلمتها ، وعبرت عن رأيها بوضوح (إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم)! وأجمعت على خيار المقاطعة الشعبية العامة للبضائع الدنماركية فماذا كانت النتيجة حين غدت الأمة (أغلبية ناطقة) ، لقد وسمهم أولئك بالغوغائية ، وقصر النظر ، وأنهم لا عقول لهم تحركهم وإنما المحرك العواطف ليس إلا ، وأنهم مسلوبوا العقول ، ولولا الخوف منهم لنطق العقلاء (وهم الليبراليون طبعا) وبينوا الواجب ، لكنهم خنسوا لجبنهم أدام الله عليهم الجن ، فإن تشجعوا وتكلموا فإشارة هنا وكليمة هناك ، وقذف للحجر من مكان بعيد ، والجرئ من يتستر خلف الألفاظ ويتوارى خلف المصطلحات ، فالهجوم اليوم على (صناع الكوابيس) ، (والمتطرفين) ، (والغوغاء) ، أما تحديد الحقائق ، وتسمية الأشياء بمسمياتها ، والوضوح الوضوح في النقد ، فهم عنه بمعزل ، أليس من الغريب أن دعاة (الرأي والرأي الآخر) قد ضاقوا ذرعا بالرأي الآخر ، فانبروا لـ(مقاطعة المقاطعة) مثلا ، رافعين شعار (لا لمقاطعة البضائع الدنماركية)11 ، متنقصين بحماسة ظاهرة خيار الأمة في المقاطعة بأسلوب استفزازي ، تصل بصاحبها إلى حد اتهام الأمة بالسطحية والسذاجة ، ومتابعة العواطف دون العقول ، وأن ما يرى لا يعدو أن يكون ظاهرة صوتية ليس إلا ، وما الأمر إلا كزوبعة في فنجان ، هكذا تكون حماستهم لتسجيل مواقفهم في مصادمة الأمة والسبح ضد التيار بدل تسجيل المواقف في موافقة الحق الذي عليه سواد الأمة على مذهب (خالف تعرف)! ، لينكشف للجميع أنهم ليسوا المؤهلين لنقل هم الأمة ، ونبض الشارع ، ومن يطالع طرحهم بهذا الخصوص يعلم أنهم ملفوظون على المستوى الشعبي ، وأن ما يسطرونه في هذا السياق محل رفض ومقاطعة.
(6)
من المظاهر اللافتة للنظر هذا التحرك الليبرالي المشبوه لإنهاء الأزمة بأقل مكاسب ممكنة للمسلمين ، وأكبر قدر من الأرباح للمعتدين ، وإلا فما الذي يفسر هذا التعجل المريب في نشر وترويج وقبول كل ما يُدعى أنه اعتذار لمجرد أنه مصدر بكلمة (اعتذار) ، وإن كان عند أهل البصيرة والعمى ليس اعتذارا ولا حتى شبه اعتذار12 ، وطالع ما شئت من الاعتذارات المقدمة حتى اليوم هل تجد فيها تجريما لما وقع أو تخطئة لما جرى ، غاية الأمر أنهم يقولون: إننا نأسف إن آذينا مشاعركم ، لكن لنا الحق في سب نبيكم!! فهل يسمى هذا اعتذارا يا عباد الله ، أم هو جرم جديد يحتاج إلى اعتذار ، وهل يصح أن تُنهى الأزمة بمثل هذا الكلام ، وأن يقال فيهم: (خير الخطائين التوابين!!)13 ، إن الأمة اليوم تقف موقف قوة يمكنها من تحقيق أكبر قدر من المكاسب ، ومع كل يوم يمر يكون للأمة الحق أن ترفع سقف المطالبات ، استجابة للواقع وتفاعلا مع الأحداث ، ولو أن أصحاب البقر كانوا أذكياءا لأنهوا الأزمة من أولها بالاعتذار الصريح وأغلقوا الملف قبل وصوله للعالم الإسلامي ، لكن للغباء والغطرسة الدنماركية ضريبتها والتي يجب أن تؤخذ منهم ، ولا يصح أن يتنازل عنها بحال ، إننا لا نريد التعجيز أو وضع المطالبات الممتنعة المستحيلة في ظرف استضعاف تعيشه الأمة على الصعيد العالمي ، لكننا نريد أن نخرج من هذه الأزمة بأكبر قدر من المكاسب والأرباح الممكنة ، والتي تكفل لنا وتضمن فيما تضمن حقنا في عدم وقوع مثل هذا الانتهاك مجددا ، وحقنا في نشر ديننا والدعوة إليه كما هو من غير تحريف أو تشويه ، وليحفظ التاريخ لنا هذا الموقف وهذه الوقفة ، ولتكون الدنمارك أنموذجا لما يمكن أن يحصل متى ما مس جناب نبينا بسخرية أو استهزاء ، أما محاولة إغلاق ملف القضية بأي وسيلة وكيفما اتفق فخيانة لجناب النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ينبغي أن تكون محل المحاسبة والجزاء ، وهي دليل على ضيق عطن بما يحصل ، وأن تطويل الأزمة ليست في صالح القوم ، ألم أقل إن المشروع الليبرالي معطل ، وأن فصل الخريف هذا لا بد أن ينتهى أو يُنهى!