على ربوة تطل على سورية الجميلة, وقف هرقل الراحل هرباً من أنطاكية المقدسة لدى الروم (لبدء تبشير برنابا المعمداني منها في الشام) قاصداً القسطنطينية, والدمع يترقرق في عينيه ـ وهو الملم بعلم أهل الكتاب ـ يخاطب سورية بخطاب مغاير لكل خطاب سابق متأمل بالعودة, قال: "سلام عليك يا سورية، سلاماً لا اجتماع بعده ولن يدخل إليك رومي إلا خائفاً", وبعد قليل كان أبو عبيدة بن الجراح على أعتابها (15 هـ).
مضت القرون ودمع هرقل لم يعرف الجفاف, كانت عبارات هرقل ترن في آذان الروم, وظلت العودة إلى أنطاكية حلم الروم الذين استولوا عليها مجدداً بعد قرون ثلاثة (357 هـ), وتناوب المسلمون والروم على حكم أنطاكية قبل وبعد دولة السلاجقة والحروب الصليبية ودولة المماليك.
ولسنا هنا في وارد التفاصيل, وإنما مقارنة خاطفة لهذه الدمعة غير المنسية ـ لقرون ـ في مقلتي هرقل لفقدان هذا المقدس الرومي, ودمعاتنا المنسية ـ بعد شهور فقط ـ من الإساءة الدنماركية لمقدس في ديننا نجله ونحترمه, ولا يستقيم ديننا من دون إجلاله وتوقيره, هو شخص النبي صلى الله عليه وسلم..
هل جفت دموعنا أم خارت عزائمنا؟.. قاطعنا الجبن والزبد, وذهلنا عن تفعيل غضبتنا وبلورتها في أشياء إيجابية خلاف المقاطعة.
بدت عاطفتنا أسبق من منهجيتنا في استثمار الأزمة والغضب, لكن مع ذلك كانت هذه الأزمة من أكثر أزماتنا فاعلية وتأثيراً, من جهات عدة: إعلامية وسياسية واقتصادية, وإن ظللنا مشدودين للرغبة بأن نكون أكثر تنظيماً في رفض العدوان الإعلامي الذي شن من الشمال الأوربي هذه المرة.
انتهت هذه المشكلة أم لم تنته.. هذه قضية تظل مرهونة بطول النفس الإسلامي الموصول برباط يجمع بين علماء وزعماء الإسلام وجمهور الأمة الإسلامية, إن انتهت فبتقصيرنا في كل مرة عن قطف ثمار الغضبات الشعبية.. في الاعتداء على الأقصى.. في اغتيال محمد الدرة.. في العدوان على العراق.. في تدنيس المصاحف.. في كل عدوان قرع الآذان بالقصف أو جرح القلوب بالمساس بالعقيدة. وإن استمرت ـ بعد فضل الله سبحانه ـ
فبوعينا بسياق الأزمة ومناخها وأهدافها وقوة فعلنا ورجاحة توجيه المفكرين والمصلحين لهذا الحدث في مرماه الناجز.
وبالتالي يبقى هذا ترمومتر النجاح فيها ومعيار التقدم في التعاطي مع أحداث العدوان المختلفة, وربما قد توافر لهذه الأزمة زخماً رسمياً وإعلامياً وجرأة في اعتلاء درجها وصولاً إلى أقصى درجات الصخب ودرجة معقولة من الفعل الممكن ما لم يتوافر لغيرها, بيد أن هذا لا يقلل من أهمية الثورة العارمة التي استطاعت أن تعتلي كل منبر لتقول لا قوية لشتمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, وهو ما يشجعنا على الوقوف عند بعض المحطات في هذه الأزمة, رجاء الإفادة من تحليل الموقف والاقتراب بصراحة من ملامح المسألة الدنماركية, إجمالاً فيما يلي:
• يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :".. وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري", هذا الحديث إن لم يحسنه الألباني في الإرواء فقد شهدت له المسألة الدنماركية, حين استحالت البذاءة الدنماركية ذلة وصغار لف أركان الدولة الدنماركية, أذهبت هيبة هذه الدولة الاسكندنافية التي لم تخالف الحبيب بأمره, بل حادته واجترأت على سيرته وحياته وصورته البهية الكريمة, فمن رمى الحبيب بنقيصة راغم الله أنفه وأذل كرامته وأحنى جبهته, حتى صيرت صور الخسارة علم الدنمارك ورمز سيادتها وصولجانها خرقاً وأسمالاً مهلهلات يمسح الغاضبون بها نعالهم بعد أن تنطفئ نيران حرقها, وحيث يحيي التلاميذ والعسكريون الدنماركيون بيارق بلدهم في فخر واعتزاز تشتعل النيران في أعداد هائلة من تلك البيارق في بلدان الحوض الإسلامي من المحيط إلى المحيط, فأي صغار وأي مذلة استجلبها الدنماركيون حين بسطوا حمايتهم على اليد النجسة التي رسمت فبغت واعتدت, فحاق مكرها السيئ بأهل الدنمارك, وقدر الله .. فـ"أرادوا عمراً وأراد الله خارجة".
• للإسلام قدرة عجيبة على الصمود في وجه كل محاولات تغييبه عن الوجود, وحين يركن أعداؤه إلى سبيل يبغون بها أن يكسروا شوكته وشوكة المسلمين ارتد كيدهم إلى ثغرهم, فينقلب تسلط الأبعدين ونهب ثورات المسلمين سلاحاً يصوب إلى المعتدين, صحيح أنه سلاح ضعيف وهزيل سعى الغرب لأن يكون نمط حياة المسلمين, وهو سلاح الاستهلاك الذي لم يكن من قبل سلاحاً فعالاً مثلما ظهر الآن من خلال غضبة عظيمة دخلت دعوتها بيوتات المسلمين وغشت أنديتهم ومراكزهم التجارية, وقد أراد الغرب دوماً للمسلمين ألا ينتجوا سلعهم الأساسية وأن يكونوا على الدوام منجذبين إلى البلدان المنتجة التي تتحكم بهم وبقوتهم, وهم قد نجحوا إلى حد كبير في ذلك, غير أنهم لم يفطنوا إلى أن هذا الانجذاب وهذه الأسواق المفتوحة الشرهة قد يصبح إغلاقها لعارض كهذا كارثة تحل بالدولة المنتجة التي استيقظت على حقيقة لا مراء في صدقيتها يخنس معها التفوق الإنتاجي حتى يصبح أكذوبة تفوق يختزل تأثيرها القرآن في موجة صراع جديدة في جملة قصيرة "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون".
• فريق ممن يتسمون بأسمائنا ويتكلمون بألسنتنا اعتدنا ألا نفقدهم في كل حادثة تلم بالأمة الإسلامية, يثبطون العزائم ويضعضعون القوى, يتلونون كالحرباوات, يتحدثون بخنوع وخضوع للغرب ويتلمسون له العذر, وينافحون عنه بما لا ينافح هو عن نفسه, ذليلة أعناقهم للغرب مرفوعة أنوفهم في وجه بني جلدتهم, يحدثوننا عن المعركة الخطأ, ويقللون من جدوى مناهضة العدوان البذيء, "يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم", ولسنا نعني من يحاول أن يجد صيغة أكثر نجاعة لرد العدوان من الغيورين من العلماء والدعاة الربانيين ومنهم من قد نختلف مع رآهم ولكن نقدرهم ونحترمهم, فالمقاطعة وغيرها ليست أموراً معلومة من الدين وإن حظيت بتأييد السواد الأعظم من المسلمين, وإنما من ندرك مسبقاً خطهم الملكي أكثر من ملكة الدنمارك ذاتها في أزمة كهذه من العلمانيين وأترابهم, فهؤلاء يثبت لهم ولنا على الدوام أن سهامهم إلى قلوبنا مسومة ورماحهم إلى صدورنا مصوبة, في الفلوات ينعقون بما لا يسمعون إلا صدى لما يتردد في أروقة الدنمارك وأوربا.. هؤلاء في الأزمة لبسوا مسوح الرهبان, ارتدوا عمائم مصطنعة, انزعجوا لما لمسوا لأحباء محمد صلى الله عليه وسلم انتصاراً وغيرةً وحميةً لم يألفوها فغدوا على حرد صحفهم وفضائياتهم متحذلقين ومتفلسفين ومجادلين في مسلمات بعيدة كل البعد عن منطقهم الذي أثبتت الأمة عبر جميع استطلاعات الرأي في العالم العربي أنها تلفظه وتلفظهم.. هؤلاء ثَم وفي كل أزمة تشرئب أعناقهم سعياً وراء هز الصورة الواضحة الجلية لحقيقة الصراع, فتارة يقولون الدنماركيون معذورون لأنهم لا يعرفون ديننا, وتارة يقولون إن الخطأ عند الرسام وحده, وتارة يستكثرون على الأمة أن تنتفض ولا يرضون ـ بذلهم وخنوعهم ـ حتى انتفاضة نعجة بين يدي قصاب, وتارة يجادلون عنهم ويستعظمون منطقهم, وتارة يخطئون عمداً أو جهلاً أو حمقاً في فهم ترجمة اعتذار كبر وصلف باهت, وتارة يخوفوننا بالمقاطعة ويشددون على أننا نحن المتضررين, وتارة لا يرون في حركات الاحتجاج إلا ما يشذ من فلتان أعصاب نفر قليل من المحتجين, وتارة ينسبون فضل الموقف الموحد لأسيادهم من الحكام المتكلسين فوق الكراسي راكبي أمواج الغضب... هؤلاء نعرفهم بسيماهم, نعرفهم في لحن القول, ينتظمون في صفوف الطابور الخامس, تكشفهم عدسات الأزمة فإذا هم كما يعرفهم منا العارفون خبال.. خبال زائد إذ يخرجوا فينا وإذ ينطقون, يبغون فتنتنا أن نراهم في صفوفنا وفي صحفنا وفضائياتنا من العلمانيين ولداتهم فلا نعرف الحق من الباطل, غير أن العارفين يدركون كنههم والبسطاء لا يأنسون بوجوههم الكالحة وجباههم التي ما انحنت لله حتى تغضب لرسوله صلى الله عليه وسلم.
• إنه "نصر بلا حرب" مثلما أطلق ريتشارد نيكسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق على كتابه.. نصر بلا دماء وبلا سلاح وبلا طلقة نار.. نصر وإن لم تمض بيارقه إلى معسكر الغرب, ذاك أن النصر هنا هو انتصار هذا الشباب الغاضب الذي أريد له أن يغيب فما غاب, نصر لفرق لمسناه في قلوب أوروبا لكأنهم يستنسخون لنا المشهد الذي وقفته قريش لما هزؤوا بالنبي حيث يطوف بالكعبة فاستدار لهم "تعلمون يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح"؛ فتنسوا كثرتهم؛ فالتمسوا رضاه فرقاً من عزته وهيبته "مهلاً يا أبا القاسم, فوالله ما كنت جهولاً"!! ولقد أسهمت هذه الوقفة المباركة في لجم صلف الغرب وتجاسره على مقدسات المسلمين فانجابت الغشاوة الاستكبارية عن عيونه وتراجع في أحلام أخرى كان ينوي تشويه المقدسات الإسلامية في أفلام ومقالات وألون من الاستهزاء والتشويه كانت مزمعة فانزوى عنها مطلقوها .. ونعم لم تكن الغضبة على ما ينبغي, ونعم نحن نثور ثم تخمد ثورتنا من غير أن تتحقق مطالبنا عادة, لكن هذه الغضبة اتسمت بمذاق خاص جعلها عنوان عزة وفخار وارتسمت معها صورة لم يألفها المسلمون منذ عقود طويلة, وأشعرت الجميع أن الرسول صلى الله عليه وسلم باق في أمته بسنته ولو بعدت عنها الأمة كثيراً, لأن في القلب حنين لصاحب الفضل النبوي العظيم عليها.
• هي معركة الحضارة, وهي معناها البارق في سماء المعرفة الدالة بالأكيد على أن هذا الإسلام عظيم.. يُبعَد الناس عن دينهم بكل ما أوتي "الاستعمار" من قوة, وتنفذ بحقهم كل خطط التغريب والعولمة ثم يثبت بما تبقى من معاني الإسلام الخالدة من بقية قليلة في نفوسهم أنهم أصحاب حضارة, فحيث هب المسلمون في أرجاء الدنيا.. من أفغانستان إلى فنزويلا, وحيث بلغت شحنات العاطفة ذروتها وفيض الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم منتهاه, وحيث أفلتت أعصاب البعض فأعمل النيران والعصي في رموز التغريب والقهر والطغيان, إلا أن ذلك لم يذهب بالحقيقة الكاشفة أمام الجميع أن هؤلاء جميعهم برغم ما يتبدى من ملابسهم الرثة حضاريون, فكيف لعمرك يبقى للغرب من نصيب من رقي وكل هذه الاحتجاجات لم تنل من الاحترام الإنساني ما نالته حادثة واحدة في سجن أبي غريب أو في فضيحة الجنود البريطانيين الذين تكشفت "حضارتهم الساكسونية" في بطشهم بصبية قذفوهم بالحجارة, وكيف إذا كانت حجارة الغرب لنا في أحب إنسان وطئ الأرض بقديمه له في نفس كل مسلم حباً لا يدرك كنهه المبطلون الغافلون؟ سار الغربيون, جالوا في بلادنا ولم يتعرض لهم أبناء هذا الدين الحضاري العظيم, في وقت كانت الصور القميئة تنتشر في وسائل إعلامهم كما السرطان بل أشد, وما زالوا يمشون مطمئنين, ولو كانت الآية مقلوبة لسحلونا في شوارعهم ولقتلونا ولمثلوا بجثثنا, وقد فعلوا ذلك فيما هو أقل من ذلك في العراق وغيرها.
• هذه نقطة تاريخية في حياة المسلمين في العصر الحديث, لسنا نبالغ إن قلنا ذلك, لأنها لحظة وقف المسلمون عندها جميعهم يتحدثون باسم الإسلام, توارت القوميات والوطنيات والحزبيات.. توارى كل هذا, حتى إننا وجدنا الرسميين الذين أحياناً لا يحسن بعضهم يتوضأ مدفوعين تحت إسار الضغوط الشعبية إلى الحديث باسم الإسلام وعن الإسلام, لينصر الله هذا الدين ـ كما هو مقرر ـ بـ"الرجل الفاجر" وبـ"أقوام لا خلاق لهم", فهذا الإسلام لا يخجل من ذكره هذا المسؤول أو ذاك كما كان في الماضي!! في هذه اللحظة التاريخية بان جانب كبير من الصراع الذي حاول الجميع إخفاءه عن أعين البسطاء والمخدوعين, بانت أوروبا المسيحية وهي تتساند ضد غضبة المسلمين, وتبدت عصبية فرسان الصليب كما تبدت إبان الحروب الصليبية الأولى, ولم تخطئ أعين المخدوعين ذاك الشعار الديني في علم الدنمارك وفي أعلام كثير من الدول المساندة لها, وفطن الناس لأنهم هم فقط المأمورين بالتخلي عن دينهم وإبعاده عن الساحة ولو أهين ولو اعتدي عليه, فيما المعتدون لم تزل نار الحروب الصليبية متقدة في صدورهم, فجميل أن يكون الصراع واضحاً هكذا, وحسن أن تكشف الأزمة عن حقيقته على هذا النحو فلا يبقى في جعبة المتصارعين ما يخفونه.
• جمهور الغاضبين: أماطت الأزمة عن حقيقة ظلت مخبوءة لزمن طويل, تراكمت عليها الفتن ورانت عليها المعاصي في القلوب, لكن الجماهير جرحت فإذا الإسلام عزيز في قلبها وإذا الرسول صلى الله عليه وسلم حبيب, تذرف من أجله مآقٍ لم نتصور يوماً أن تبكي على هذا النحو, رأينا مذيعين وضيوفاً تليفزيونيين وحتى "فنانين" يبكون, ورأينا جموع الغاضبين يخرجون في الصعدات لا يعرفون زعيماً سياسياً ولا حركة ولا حزباً وإنما عاطفة لوعة وحزن وانكسار لما جرح مشاعر حبهم للنبي الخاتم العظيم.. جمهور ما ألفناه, يقظة وإن بدت مؤقتة أو سطحية؛ فإن لها أثرها الذي نقش على القلوب الملتاعة, هذا الجمهور يثبت بما لا يدع مجالاً لشك أن هذا الدين متين, وأن أتباعه حقاً هم خير أمة ولو غفلت أو جهلت أو ظلمت نفسها حيناً من الدهر, فإنها معنية بالصدارة الأخلاقية والقيمية وخليقة بأن تتيوأ مكانتها وأن تسد الفراغ الروحي الموجود في العالم كله.
• ضد السياق: سياق الذل والمهانة, شعرت هذه الأمة أنها مرهوبة وأن غضبتها مزعجة, وأنها مؤثرة في السياق الدولي, وأنها وإن تراجعت في محافل كثيرة لقد ظلت تحتفظ لنفسها بمقومات الممانعة, وأنها مازالت عصية على التدجين والإخضاع الكامل, وأنها ليست رقماً هامشياً في معادلة السياسة العالمية, وتردد في أسماع الناس جميعاً عبارة "أمة المليار ونصف المليار" (أو المليارين وفقاً لتقرير سري لـ C.I.A , وهو ما أميل إلى تصديقه في الواقع), وأدرك المسلمون أن في جعبتهم سلاحاً هو بالفعل مرهوب الجانب في أوروبا وغير أوروبا لم يزل في غمده, وعاين المفكرون بعيني رأسهم كيف يخشى الغرب بلا مبالغة مما يسمونه المارد الإسلامي ونسميه العملاق الإسلامي, وأن هذه القضية وإن باتت تشغل الغرب ودوائر دراساته ومراكز بحوثه فهي قمينة بأن تكون محل إحياء وإبراز من كافة دوائر تنظيرنا ودعاتنا وموجهينا, وسعي نحو تأصيل قاعدة تكتلنا كمسلمين داخل إطار العولمة التكنولوجية وخارج إطارها الأخلاقي والقيمي والسياسي والاقتصادي.
• هزيمة فكرية واهتزاز مبدئي للغرب: إن من أبرز تجليات هذه الأزمة الدنماركية هو توجيه لطمة قوية لمبدأ حاولت أوربا باستماتة أن تحافظ عليه وهو حرية الرأي المنفلتة من عقالها, لكنها من دون شك قد أصابها أو أصاب زرافات من شعوبها نوعاً من الاهتزاز بقناعتها في إطلاقه على هذا النحو الأخرق, ولكم كان قاسياً على الغرب أن يصفع مراراً بمأزقه بشأن الهولوكست النازي وعجزه عن إطلاق هذا المبدأ من دون ضوابط, حتى غدا البسطاء من المسلمين ـ فضلاً عن النخبة ـ يتندرون على ازدواجية الغرب في ذلك, ويعيرونه به وبعجزه عن تحقيق مبدأ يعتنقه, لتسقط ورقة توت أخرى بعدما سقطت ورقة الديمقراطية كمبدأ ظل الغرب يزعم الاعتزاز به حتى نجحت حركة حماس, وطالب بعض نواب الكونجرس من الرئيس الأمريكي جورج بوش بـ"الإبطاء" في مشروعه الزاعم ـ بدوره ـ نشر الديمقراطية في العالم العربي, وقد كان لافتاً ذاك التراجع الواضح ـ ولو نظرياً ـ لساسة أوروبا وحديثهم عن "حرية تعبير منضبطة" تحت مظلة الضغوط المحدودة التي قام بها المسلمون وبعض مؤسساتهم الاقتصادية.
• درس في الإدانة والاعتذار: للأسف أعطتنا أوروبا والغرب والقوى غير الإسلامية في بلداننا وبلدانهم درساً ـ بل دروساً ـ في الإدانة والاعتذار لأولئك الذين يعتبرون أن إدانة أي عمل يغيظ الغرب هو الركن السادس لأركان الإسلام! فيهرعون إلى منابر الإعلام ليعلنوا موقفهم المدين وربما المعتذر, وهذا من حيث المبدأ المنطلق من شعور برغبة في توضيح الحقائق وتجليتها وتوحيد الصفوف ومنع الفتن مقبول في أحيان معينة, لكنه مذموم وأحياناً مقزز حينما يشتم منه رائحة الخنوع والرغبة في تبرئة النفس وهزيمة نفسية تسري في العروق, وبين هذا وذاك فاصل دقيق لكنه محسوس حينما نشعر باندفاعة خاطفة في هذا الصدد ونبرة جد عالية في الإدانة والاعتذار لا نكاد نرى معشارها في إدانة الطرف واعتذاره إزاء جريمة نشر الصور الخزي لراسميها في الدنمارك.. هو بكل وضوح درس لمن شهد الحياء الوافر في اعتذار الصحيفة ورئاسة الوزراء الدنماركية وسفارات الدنمارك في العالم الإسلامي.. حياء الاعتذار أبرزته العبارات الملغزة والموهمة التي لا يمكن فهمها في سياق اعتذار عن الفعل نفسه أو عن سوء فهم هؤلاء (المجانين المسلمين مثلما يفهم مما وراء العبارات التي استغربت الفعل ونأت عن الاعتذار عن الفعل نفسه) الغاضبين, الذين يقول مضمون الاعتذارات:" لم نكن نظن أن المسلمين سيغضبون لهذه الدرجة, لذا فنحن نعتذر لما أصابهم من ضيق لم نكن نقصده!!".. وتأتي بيانات الإدانة الآتية إن من أمريكا أو بريطانيا أو فعاليات سياسية أوربية في ذات السبيل.. والأنكى أن ينسحب هذا الفتور في الإدانة على مؤسسات دينية مسيحية كدولة الفاتيكان وكنيسة الإسكندرية المصرية, وإذا كانت الكنيسة المصرية ليست مسؤولة بطبيعة الحال عن هذه الجريمة الصحفية الدنماركية وما استتبعها من توالي تساقط أوراق الدينمو الصحفية إن في أوروبا وغيرها أو بعض الدول العربية؛ فليس الأزهر ولا المؤسسات الدينية الأخرى في الخليج وغيره في المقابل مسؤولين ولا مدعوين لإدانة أي عمل يستهدف مؤسسات أو مصالح أو رعايا الغرب هنا أو هناك, وليكن التعامل بالمثل فيما ليس مطلوباً منا أن نفعله, على الأقل لكي يكون اعتذارنا أو إدانتنا ذات مصداقية وتنتظرها العيون بشغف لا بيانات ممجوجة, ومبتذلة ـ أحياناً ـ ربما يتوقعها المحرر الصحفي ويكتبها قبل أن تصدر من جهتها..
• ليست بعيدة عن السياسة: هناك دائماً دعوة لأن تكون مثل هذه الأحداث وردود الأفعال عليها تحت عدسات الساسة والخبراء والاستراتيجيين, وهذا لا بأس به, لا بل مأمورين نحن بفهم مناخ هذه الأحداث كيما نكون ورقة في يد أحد, بيد أنه من حسن السياسة أيضاً استغلالها ولو كانت خارجة في مضمونها عن ظاهرها, فقد تكون مثلاً سيقت كبالون اختبار لقياس رد فعل المسلمين على مشروع عداوني آخر كهدم الأقصى, ويكون ساعتئذ من الضروري أن يزيد رد الفعل لا أن ينحسر, وقد تكون الدنمارك مقصودة بالأساس لتفجير صراع ما يرفع عن الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها غائلة التفرد بالعدوان وبشن حرب وصفها الرئيس الأمريكي جورج بوش آنفاً بأنها صليبية (حاول بن لادن يوماً أن يفرق في رسالة صوتية بين الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول بالقول بأنه خلافاً لما تصوره أمريكا أنه يحاربها لأنها "بلد حر"؛ فإنه يترك دولاً أخرى تحمل نفس المبدأ "الحرية" لكنها مسالمة ودلل على ذلك بدولة السويد, وبدا هنا أن الدنمارك والنروج التي تبعتها ـ شقائق السويد الاسكندنافية وأختها القبلية "الفايكنج" ربما أقحمت بحماقة أو بقصد لتوسيع الدائرة أكثر وأكثر), لا سيما إذا أضيف إلى ذلك الطبيعة غير "الاستعمارية" التي حكمت علاقة الدنمارك بالعرب والمسلمين, وأيضاً قد يكون تفجير هذه الأزمة في إطار استراتيجي يبغي ردم الهوة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا عبر انزلاق قدم الأخيرة في أزمة الصور, وإذا ما أضيف إلى ذلك تورط جهة يهودية في إعادة نشر الصور في النروج ـ ربما احتمال تورط يهودي في رسم الصور بالأساس وفقاً لمعطيات تاريخية وبعض الشواهد كيمينية الجهات التي تقف وراء الصحيفة ونجمة داود شعار الصحيفة البذيئة الذي يعلو اسمها ـ لأمكن تفهم احتمال وجود دور صهيوأمريكي في تأجيج الأزمة, لكن وعلى أية حال, فالواجب أن يقال أنه ومع ذلك ومع افتراض جدلي بوجود هدف استراتيجي وراء الأزمة؛ ينبغي ألا يثبط ذلك عزيمة رد فعل لموقف يستأهل على كافة الصعد أن يتصاعد وأن يتداعى المسلمون إلى الاحتجاج عليه وإلى إدانته بكل كلمات الإدانة وأفعالها الحضارية. ومع التسليم بأن زمرة الحكام في كثير من البلدان العربية قد ساهمت في تأجيج الاحتجاج أو على الأقل سكتت عنه ولم تناهضه وسمحت لاتحادات الغرف التجارية وجمعيات الاستيراد ومراكز التسوق التي يملكها قريبون من أنظمة الحكم, وحتى الرياضيين والمغنيين, فضلاً عن "السياسيين المطربين" في الجامعة العربية, وبعض المؤسسات الدينية المغرقة في التبعية لأنظمة الدول الإسلامية؛ فإنه مع ذلك لا يعني أن مثل هذه التوجيهات قادرة على لجم الشعور العاطفي الذي ساهم في انطلاقه إذا ما أرادت ذلك, ولا يعني أن يقلل المصلحون من ذلك الشعور بحجة أن "من لا خلاق لهم" قد ساهموا في تأجيجه, ولست أعني مسألة المقاطعة ذاتها أو سقف هذا الاحتجاج من الناحية العملية, بل أعني أن مثل هذه الأحداث قد تركت في النفوس آثارها التي ينبغي أن تفعل وتنمى بغض النظر عن أهداف دنيوية وضيعة ارتضاها تجار المشاعر في هذا الوطن أو ذاك, وهو ما نعنيه سياسياً بالتوظيف الحكيم والعاقل, وما يعنيه المربون بالتربية بالأحداث, التي قد لا نصنعها وإنما نستثمرها. وعطفا على ذلك, نفهم أنه لن يكون مسموحاً لنا أن نثور هكذا في وجه جهات أكثر نفوذاً بكثير من الدنمارك لكن لا يعني أن تفعل الأقل أنك ضعيف وجبان وإنما قد تكون مواطئاً لجناب الحكمة والوعي والإفادة من الأبواب المتاحة للتعبير, وإطلاق نموذج يعرفه العالمون.
• بعيداً عن الإحباط: ندرك أن الدلائل تشير إلى أن مصر فجرت الأزمة إبان صعود الإخوان في الانتخابات النيابية التي جرت قبل 3 شهور, والذين لا يراد لهم أن يستأثروا بالمشاعر الإسلامية الجياشة, وهو ما أشارت إليه صحيفة بوليتيكن الدانمركية من أن "الحكومة المصرية لعبت دوراً كبيراً في إثارة مسألة الرسوم المسيئة" (18 فبراير). وندرك أن لبنان لم تكن في العصر الحديث من بلدان "التطرف الإسلامي" ـ إن جاز التعبير ـ وندرك أن سوريا تعاني من مشكلة مع الغرب وتريد توظيف أحداث لتلك لصالحها, وكذا إيران التي نفضت يدها من التعاون مع الدنمارك اقتصاديا فيما لم يكن حجم تعاملها مع الدنمارك يزيد كثيراً عن 300 مليون دولار (وهو حجم صغير في العلاقات الاقتصادية البينية), وندرك أن بعضاً من مظاهر الاحتجاج المسكوت عنها صناعة رسمية (في السماح بها لا التفاعل الجماهيري معها), لكن كل هذا ومع إدراكنا الكامل له لا يحدونا إلى سبيل الإحباط من الفعل الشعبي والجماهيري الذي بدا خارج السيطرة في أكثر من بلد عرب, ومن أراد دليلاً فقنابل الغاز والهراوات تشهد له في أكثر من بلد عربي وإسلامي حاولت السلطات أن تضبط الغضبة عند مقياس ترتضيه ولا ترتضيه الأمة أمامها..
• دعوة للتفاؤل: " قدمت الدعوة سنوات للأمام، فلو ظل 100 داعية يتحدثون عن الإسلام في الدانمرك 10 أعوام ما تركت هذا الأثر." [الشيخ علي إسماعيل المتحدث باسم الأئمة بالسويد], وهذه حقيقة حدت بالمسلمين للتفكير في نشر كتب كثيرة تتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم استغلالاً لحالة الفضول التي تعتري الأوروبيين ـ لاسيما الاسنكنافيين وخصوصاً الدنماركيين ـ لمعرفة سيرة هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم, وهو ما عزز أيضاً من قيمة المسلمين وجالياتهم في أوروبا لأنه خلافاً لما يظنه الخانعون في البلدان الإسلامية؛ فإن الغرب لا يحاور الضعفاء ويستمع بإنصات حينما يشعر أن هذا المحاور طرف وليس تابعاً, وبالتالي فبعد أن كانت الدنمارك تستنكف عن لقاء السفراء الرسميين جعلت تستجدي الدعاة غير الرسميين فقط لتحاول تجميل وجهها, وهنا نلمح مقارنة لافتة جداً لسعي وزير داخلية فرنسا وشؤون أديانها للقاء شيخ الأزهر إبان أزمة الحجاب الفرنسية وسعي الخارجية الدنماركية لاستضافة بعض الدعاة مثل الأستاذين عمرو خالد طارق سويدان, هذه المقارنة في الموقفين نلحظ من خلالها الفارق بين التمحك بالرسمي لمنحه فتوى, ودعوة دعاة ليس لهم أي صفة رسمية تستطيع الدنمارك أن تتدثر بها في محاولاتها للخروج من الأزمة, كما أنهم بالتأكيد ليسوا على هواها وأسمعوها ما لم ترد أن تسمعه مما تماهى في مجمله مع طموحات الأمة وإن اختلفت رؤيتهم..
• حركة الشباب: دللت هذه الأزمة من بدايتها فاعلية الشباب الحر في تحريك الأمة من خلال منتديات الإنترنت, والمجموعات البريدية, والرسائل القصيرة, وقوائم المقاطعة, وتوفير عناوين الجهات الدنماركية بإيصال رسائل الاحتجاج إليها, والمشاركة السريعة والفاعلة في ما تيسر من استطلاعات الرأي العربية والغربية, وصناعة رأي عام للأمة من الغبن أن نختزله كله في توافق عربي وإسلامي رسمي سمح بكل هذا ومرره لأن معظم هذه النشاطات خارج سيطرة الأنظمة وأيديها الطويلة.
وإذا كانت هذه المحطات هي رسائل التفاؤل والانشراح في مجملها؛ فإن هذا الحدث الذي استيقظت فيه الأمة الإسلامية ما ينبغي أن يذهب إلى مقبرة النسيان العربية والإسلامية من دون استثمار, وأن تتشابه دمعاتنا فيه دمعات هرقل التي ظل أحفاده لقرون يذكرونها من بعد فتح أنطاكية, لتبقى المسألة الدنماركية ماثلة أمام العيون حتى يخنس الشامتون..
"إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر" .." ورفعنا لك ذكرك"
"..دوماً يبقى شانئ النبي صلى الله عليه وسلم أبترَ, ويدوم ارتفاع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأنام مهما تقادمت السنون ومضت الأزمان, فلا زعيم أو قيادي أو سياسي أو عالم يطمح لأن يكون ذكره هكذا مرفوع بين الورى بعد 14 قرناً من وفاته.. هذا الرب القاضي بأن يظل اسم النبي الكريم بآبائنا وأمهاتنا مرفوعاً.. هذا الرب سبحانه هو الذي كلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة ووصف أتباعه بالتراحم فيما بينهم "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.."..